في عالمٍ يُمجّد شعاراتِ الدّيمقراطيّةِ والعدالة، ويُروّج لنفسه كحارسٍ لحقوق الإنسان، تتبدّى الحقيقة في أعمق صورِها عند المنعطفات الكبرى، تلك التي تُختبر فيها الشعاراتُ أفعالَها. في هذا السياق، تُطل القضيّة الفلسطينيّة كمرآةٍ للضمير الإنساني، عاكسةً عجزَ العالمِ عن التوفيق بين ما يُعلن من مبادئ وما يُمارَس على أرض الواقع. تتلاشى الهتافاتُ الرّنانةُ، وتتعرّى القيمُ المُعلنة أمام مشهدٍ مهيبٍ من التواطؤ والتّخاذل.
في مدنٍ كبرى كبرلين وباريس، مدريد ونيويورك، وصولاً إلى بيونس آيرس وساو باولو، تتدفق الحشود، مطالبةً بالحرية لشعبٍ أُثقل بالاحتلال، رافعةً شعاراتٍ تُدين الإبادةَ الجماعيّة وأعمال البطشِ والقمعٍ التي تقوم بها "إسرائيل" بحقّ الشّعب العربيّ الفلسطينيّ. لكن هذه الأصواتُ، بدلَ أن تجد صدىً مناصراً، تُواجه بعنفٍ مُمَنهج، تُطوّقها الشرطة، تُعتقل رموزها، وتُسَنّ القوانين لتُسكِتَ صداها. يتم تفريق المظاهرات السلمية بالقوة، وتجريم التضامنِ، وتصوير كل من ينطق بالحق الفلسطيني كتهديدٍ للسلم أو كداعمٍ للإرهاب.
إنه قمعٌ يتجاوز الجسدَ ليطال الذاكرة والوعي. فما يُمارَس اليوم ليس مجرد قمعٍ للمتظاهرين، بل محاولةٌ منهجيةُ لإعادة تشكيل العقل الجّمعي، لطمس روايةٍ وإعلاء أخرى. الغرب، الذي يدّعي أنه حاملُ رايةِ حقوق الإنسان، يظهر هنا ككيانٍ مرتبكٍ في علاقته مع الحقيقة، متورطٍ في حماية كيانٍ استعماريٍّ قائمٍ على النّفي والإقصاء.
"إسرائيل" بما تمثله من مشروعٍ استعماريٍّ غربيٍّ مغروسٍ في قلب الشرق، ليست مجردَ كيانٍ غاصب، بل جزءٌ من منظومةٍ كبرى تبرّر العدوان عبر ترويجِ السّرديّةِ الصّهونيّةِ، وتُغلّف القمعَ بخطابات الحضارة. إنّها امتدادٌ ثقافي وسياسي للغرب "المتقدّم" الذي يرى فيها انعكاساً لترسيخ مصالحه وهيمنته السّياسيّة والاقتصاديّة، وجزءاً من بنيانه الأيديولوجي الذي يوازنُ بين الشّعارات "الهشّة" التي يتغنّى بها والسّيطرةِ التي يسعى إلى الحفاظ عليها.
لكن، مهما بلغ القمعُ والاضطهادُ، لا يمكن دفن الحقيقة، دفن هذا الصوتِ الأصيلِ تحت أطنانٍ من الخوف والتّضليل؛ معركة الرّواية تشكّل جزءاً هامّاً من معركة الرّأي العامّ العالمي عن فلسطين، في الحرب التي يشنّها العدّو الصّهيوني على غزة؛ فالمظاهرات التي تُسكت بالقوة، والأصوات التي تُلاحق، لا تُمحى؛ بل تتغلغل في وجدان الشعوب، تُعيد صياغة الأسئلةِ الكبرى حول معنى العدالة والحرية، وللغرب جانباَ ملفت في تبرئة الاحتلال الإسرائيلي وتسويق روايته الزّائفة حول حقيقة ما يعانيه الشّعب الفلسطيني من اضطهادٍ وتهجيرٍ وقتل، لم يبدأ في السّابع من أكتوبر/ تشرين الأول، بل منذ النّكبة في عام1948
إن العلاقة بين الغرب وإسرائيل ليست مجردَ شراكةٍ سياسيّةٍ؛ إنها تماهٍ ثقافيٌ وهيمنةٌ تاريخيّة، تجسد ازدواجيةَ العالم في تعامله مع قضايا العدل. الغرب، الذي يرفع شعارات الحرية باتخاذ مواقف داعمةٍ لمشروعٍ استعماري، يكشف عن زيف هذه الشّعارات، وعن نظامٍ دولي يُعيد صياغة القيم لتخدم مصالحَه فقط.
ولكنّ القضيّة الفلسطينيّة، هي ذاكرةٌ حيّةٌ تنبض بحكايات أجيالٍ مضت، وحلمُ أجيالٍ لم تأتِ بعد. هي الرّوح التي ينهض بها الفلسطيني كل صباحٍ، وهي الشّاهد على صموده في وجه محاولات اقتلاعه من نفسه قبل اقتلاعه من وطنه؛ هذه العلاقة هي ما يجعل الأرض في فلسطين جزءاً من معركةٍ أوسعَ: معركةُ الإنسانِ للحفاظ على جوهره أمام محاولات محوِه.
إلى متى يبقى الحق يتوارى خلف الستار، خائفاً من سطوة البّاطل؟ إلى متى تصبح الإنسانيّة مجردَ شعارٍ يُتغنّى به في خطبٍ رنانة، بينما تُدفن الحقيقة في غياهب المصالح والسّياسات؟ فلسطين ليست مجردَ قضيّةٍ عابرةٍ في تاريخ العالم، إنها الامتحان الأعظم، حيث تُختبر إنسانيةُ البشرية، وحيث يتضح لمن تعود الغلبة: للحق الذي لا يموت، أم للباطل الذي يخشى حتى من صوت الضّحية؟